﴿وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ۚ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ النحل: 68-69وفي الآية إشارة واضحة إلى القيمة العلاجية والاستطبابية لهذا الشراب العجيب، وهو ما سنفصح عنه لاحقا.كما أن الآية الكريمة قد ذكرت الشراب بصيغة النكرة، فما يخرج من النحل ليس العسل فحسب، فهناك أنواع أخرى من المواد التي يمكن أخذها من النحل والتي تخرج من بطونه، مثل سم النحل والعِكبر Propolis وشمع النحل وحبوب اللقاح، والتي أثبت العلم الحديث أهميتها وفوائدها الصحية. أما الموضع الآخر ففي قول الحق تبارك وتعالى في معرض وصفه لأنهار الجنة ونعيمها:
﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ۖ وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ ۖ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾ محمد:15وقد ورد في الصحيحين من حديث أبي المتوكل
عن أبي سعيد الخدري أن رجلا أتى النبي ﷺ فقال: إن أخي يشتكي بطنه، وفي رواية استطلق بطنه، فقال:”اسقه عسلاً”. فذهب، ثم رجع فقال: لقد سقيته فلم يغن عنه شيئا. وفي لفظ فلم يزده إلا استطلاقا؛ مرتين، وثلاثا، كل ذلك ويقول الرسول ﷺ:” اسقه عسلا”. فقال له في الثالثة أو الرابعة:” صدق االله وكذب بطن أخيك” (أخرجه البخاري ومسلم)وأخرج ابن ماجة والحاكم في مستدركه:
قال النبي ﷺ:”عليكم بالشفاءين العسل والقرآن” (رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وضعفه الألباني)
وقد عرف القدماء أهمية العسل وفائدته، فقد وجد محفوظاً في مقابر الفراعنة وقد احتفظ بخصائصه ولم يتغير معمرور الأزمان، وفي احتفاظ الفراعنة بالعسل في قبورهم دلالة على أهميته، إذ كانوا يحتفظون في قبورهم بما كانوا يعتقدون أنه ضروري لهم بعد انبعاثهم من موتهم. كما عرف قدماء الأطباء والحكماء أهمية العسل كغذاء ودواء، وكانت كتب الطب لدى الإغريق والهنود والصينيين والعرب مليئة بالوصفات الطبية التي يدخل العسل في تركيبها بصفة أساسية.
وفي التراث الإسلامي، وصف الإمام ابن قيم الجوزية العسل في كتابه الطب النبوي بقوله:”هو غذاء مع الأغذية، ودواء مع الأدوية، وشراب مع الأشربة، وحلو مع الحلوى، وطلاء مع الأطلية، وفيه منافع عظيمة” (الطب النبوي ، تأليف: محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، دراسة وتحقيق: عبدالغني عبدالخالق، دار الفكر، بيروت، لبنان، ص 25-26)
إن تركز الفيتامينات والمعادن الأساسية في العسل يفسر القدرة العلاجية والاستطبابية لهذا الغذاء الهام، وهو ما جعل للعسل فوائد طبية عديدة منها:
- أنه يعد غذاءً مثالياً لمرضى الكبد وخاصة مرضى الالتهاب الكبدي الفيروسي، إذ وجد أنه يزيد من مخزون الكبد من السكر الحيواني الجلايكوجين وينشط عمليات التمثيل الغذائي في أنسجة الكبد.
- ويتميز العسل باحتوائه مضادات حيوية طبيعية تمنع نمو البكتيريا الضارة، مما جعله وسيلة فاعلة في علاج الحروق لمنع تقيحها وإدمائها، فقد استخدم عسل النحل منذ القدم في علاج الحروق، حيث استخدمه الفراعنة وجالينوس وابن سينا. وفي العصر الحديث، أثبتت الدراسات احتواء العسل هذه المضادات الحيوية مما حدا بالعلماء لاستعماله في علاج الحروق ومنع التقرحات، كما لاحظ العلماء وجود فروق واضحة بين الأجزاء المحروقة المعالجة بالعسل وتلك التي لم تعالج بالعسل، وكان ذلك واضحاً في تطور الحرق وطريقة التئامه وعلى الناحية الشكلية للحرق، إذ يعمل العسل على تجميل منطقة الحرق ويخفف من آثاره على الجلد (Ajibola, A., Chamunorwa, J. P., & Erlwanger, K. H. (2012). Nutraceutical values of natural honey and its contribution to human health and wealth. Nutrition and Metabolism, 9, 61)
- كما استخدم العسل في علاج القروح المزمنة، وأثبت فعالية عالية سجلت في المراجع الطبية العالمية. ونظراً لتركز السكر الأحادي الفركتوز في العسل، فقد استخدم العسل في علاج حالات الإدمان على الكحول، حيث يساعد الفركتوز على عملية أكسدة الكحول التي تتم في الكبد، مما يساعد المريض على التخلص من هذه المادة السامة.
- والعسل صديق المعدة، كما يقول المثل العامي، فهو علاج فعال لأمراض عسر الهضم وحرقة المعدة، ويساعد على علاج الإمساك نظراً لتركز السكريات فيه، وهو مفيد في حالات قرحة المعدة والقرحة الاثني عشرية.
- وفي مجال معالجة أمراض القلب والشرايين، وجد العلماء أن للعسل تأثيراً مخفضاً للضغط، وفسروا َ ذلك باحتواء العسل الأحماض الدهنية، وأن مشتقات هذه الأحماض لها قدرة عالية على توسيع الأوعية الدموية وتقليل المقاومة الطرفية لجدران الأوعية الدموية، بالإضافة إلى القدرة الفائقة على إدرار البول دون التأثير على توازن الأملاح في الدم.
- ونظراً لاحتواء العسل كميةً وفيرة من البوتاسيوم، لذا فهو يساعد على تنظيم عمل القلب، كما يساعد على التخفيف من ارتفاع ضغط الدم نظراً لعلاقته التعاكسية مع الصوديوم المسؤول عن ارتفاع الضغط، ولدوره في تنشيط آلية إدرار البول المعروفة بالرينين أنغيوتينسين.
- وفيما يتعلق بالولادة والرضاعة الطبيعية؛ فقد وجد أن عسل النحل يساعد على انقباض الرحم أثناء الولادة، ويرجع ذلك إلى احتوائه مادةً تشبه البروستاجلاندين، كما أن احتواء العسل مضادات البكتيريا يزيد من مقاومة الجسم ضد حمى النفاس، وهو كذلك يزيد من إدرار الحليب عند الأم المرضعة.
- وفي مجال مقاومة السرطان، فقد أمكن عزل العديد من مركبات العسل وتصنيفها، والتي لها تأثير قاتل للخلايا السرطانية، ويتم ذلك بوقف نشاط الخلية السرطانية في مرحلة الانقسام.
- أما في علاج أمراض العقم، فقد تبين أن حقن الأمهات الحوامل اللاتي تكرر إجهاضهن في الشهور الأولى من الحمل لعدة مرات، بِسم النحل وبجرعات معينة أثناء الحمل قد مكنهن من الإنجاب. وفي علاج القرحة المزمنة، فقد دلت نتائج البحوث أن استخدام عسل النحل وصمغه يؤدي إلى سرعة التئام القرح مع خلو هذا العلاج من الآثار الجانبية (Bogdanov, S., Jurendic, T., Sieber, R., & Gallmann, P. (2008). Honey for nutrition and health: a review. Journal of the American College of Nutrition, 27(6), 677-689 )
والحقيقة أن هذا غيض من فيض كبير مما كتب في المراجع العلمية والطبية حول الفوائد الصحية والاستخدامات الطبية للعسل، وما ذكر ما هو إلا نزر يسير من فوائد هذا الشراب الكريم، ومازال البحث العلمي جارياً على قدم وساق لاكتشاف القدرات العلاجية لهذا الشراب العجيب، وصدق رب العزة إذ يقول: ﴿يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ النحل: 69.
مقتبس من كتاب : الغـذاء في القرآن الكريم من منظور علم التغذية الحديث – د. معز الإسلام فارس (الأستاذ المساعد في قسم التغذية العلاجية، كلية العلوم الطبية التطبيقية) – جامعة حائل، المملكة العربية السعودية 1436 ه – 2015 م